الفلسفة اليومية في الفكر العربي: من حكمة العيش إلى وعي التحرر

أضيف بتاريخ 10/18/2025
منصة المَقالاتيّ


منذ فجر الحضارة، كان للفكر العربي علاقة حميمة مع اليومي، مع تفاصيل العيش ومع الأسئلة التي تنبع من صلب التجربة الإنسانية. لم يكن الفيلسوف العربي مجرد باحث في الميتافيزيقا أو عالم في المنطق، بل كان إنسانًا يختبر الحياة في أبسط صورها، في السوق والمسجد والمجلس، ويعيد تأملها ليكتشف معنى الوجود الإنساني. ففي تراث الفارابي وابن سينا وابن رشد، لم تكن الفلسفة ترفًا فكريًا، بل أسلوب حياة. يرى الفارابي أنّ السعادة لا تتحقق بالتأمل النظري وحده، بل بتهذيب النفس في أفعالها اليومية، وأن المدينة الفاضلة تولد من تفاعل أخلاق الأفراد في أدوارهم العملية. بذلك صارت الحياة اليومية مختبرًا لتحقيق الخير العام وتشكيل عقل جماعي يسير نحو الفضيلة. أما ابن سينا، فقد مزج بين الطب والفلسفة ليجعل من كل فعل عادي طريقًا لتوازن الجسد والروح، مؤكدًا أن عناية الإنسان بجسده جزء من سعيه نحو الكمال الروحي. بينما جاء ابن رشد ليعيد الاعتبار للعقل وسط تفاصيل اليومي المظلمة، فاعتبر أن الفلسفة ممارسة عقلانية ضرورية لتصحيح مسار الحياة العامة ومقاومة الجمود الفكري وأن الإنسان لا يصبح حرًّا إلا إذا وُجِّه عقله نحو تساؤل دائم عن أسباب ما يعيشه يومًا بعد يوم.

ثم تطورت الفلسفة اليومية في الفكر العربي الإسلامي عبر التصوف، عند ابن عربي والحلاج وغيرهما، الذين رأوا في اليومي مرآةً للتجلي الإلهي. كانوا يعيشون التجربة الروحية في أشياء عادية: في الطعام، في اللقاء، وفي الألم. جعلوا من اليومي مجالًا لتذوق الوجود، ليحوّلوا المألوف إلى ساحة إمكانية للوصل بين الإنسان والمطلق. ومع مرور الزمن، لم يختف هذا البعد التأملي، بل تجدد في الفكر العربي الحديث. فطه عبد الرحمن أعاد للفعل اليومي مكانته بوصفه ممارسة أخلاقية ووجودية، يرى أن الفيلسوف الحقيقي لا يكتفي بالتفكير المجرد، بل يعيش فكرته ويحاور العالم من موقع الحياة اليومية. واعتبر أن الأخلاق ليست طقوسًا نظرية، بل هي فعل يومي يمنح المعنى لكل علاقة إنسانية. أما مالك بن نبي، فقد جعل من “مشكلتنا الحضارية” قضية مرتبطة بطريقة عيشنا اليومية، من كيفية استخدامنا للوقت إلى تنظيمنا للفضاء العام، مؤكداً أن الأزمة الفكرية هي في أساسها أزمة في الوعي بالمألوف. في تصوره، يبدأ التجديد الحضاري من إعادة بناء الإنسان في حياته اليومية، لأن التغيير لا يحدث في الخطاب بل في الممارسة.

أما عبد الوهاب المسيري، فقد حمل اليومي إلى ميدان النقد الاجتماعي والثقافي. رأى أن الحداثة فصلت الإنسان عن تجاربه البسيطة وحوّلته إلى كائن آلي مستهلك، وسعى إلى استعادة “الإنسان المركب” القادر على أن يحيا المعنى في أفعاله الصغيرة قبل مشاريعه الكبرى. فالفلسفة عنده ليست كتابًا يُقرأ، بل وعيًا يُمارس في المقهى، في الحب، في العمل، في الموقف من السلطة. وفي كل هذه المسارات، يظل جوهر الفلسفة اليومية هو استعادة الوعي بما ننساه حين يغدو العيش عادة، هو أن نتعامل مع الحياة كفنٍّ للإصغاء لما تهبه لنا لحظة بلحظة. 

من هذا المنظور، تظهر الفلسفة اليومية العربية كمشروع إنساني متكامل، يسعى إلى التوفيق بين الروح والعقل، بين الحلم والعمل، وبين الإنسان والعالم. إنها ليست بحثًا في الماوراء، بل تأمل في الظاهر بما يحمله من عمق خفي. في زمن يغمره الإسراع والاستهلاك، تدعونا هذه الفلسفة إلى بطءٍ واعٍ، إلى إعادة اكتشاف العادي بوصفه معجزة. فالفكر، كما قال الفلاسفة العرب منذ قرون، لا يتحقق في الأبراج، بل في الشوارع، في كل مرة نقرر فيها أن نكون حاضرين تمامًا في تفاصيل حياتنا اليومية.